الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، وفارس من فرسانها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر.
أسلم هذا الصحابي سنة ثمان من الهجرة، وخاض عشرات المعارك.
يقول عنه المؤرخون: لم يهزم في معركة قط لا في جاهلية ولا في إسلام، يقول عن نفسه: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا صفيحة يمانية"[1]. وهذا يدل على شجاعته الفائقة، وعلى القوة العظيمة التي ركبها الله في جسده، وكان قائدًا لجيش المسلمين في معركتي اليمامة واليرموك الشهيرتين، وقطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وكانت هذه من أعاجيب هذا القائد، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيف الله المسلول، وأخبر أنه: "سيف من سيوف الله سله الله على المشركين" والمنافقين، وقال عنه: "نعم عبدالله، وأخو العشيرة"[2].
إنه فارس الإسلام خالد بن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي المكي، وهو ابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنه -، كان رجلًا ضخمًا، عريض المنكبين، قوي البنية، أشبه الناس بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد كان لهدا الصحابي مواقف عظيمة تدل على شجاعته ونصرته لهدا الدين، ومن هده المواقف غزوة مؤتة الشهيرة، وقد حدثت سنة ثمان من الهجرة في نفس السنة التي أسلم فيها خالد، وكان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل، وعدد جيش الروم مائتي ألف مقاتل، ونظرًا لعدم تكافؤ العدد بين المسلمين وعدوهم، فقد ظهرت في هذه المعركة بطولات عظيمة للمسلمين، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش المسلمين زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبدالله بن رواحة، وقد استشهد القادة في هذه المعركة، بعد ذلك أخذ الراية ثابت بن أقرم، وقال للمسلمين: أمروا عليكم رجلًا، فاختاروا خالد بن الوليد، وها ظهرت شجاعته العظيمة وعبقريته الفذة، فقام بإعادة ترتيب جيش المسلمين مرة ثانية، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، ثم جعل بعض الجيش يتأخر قليلًا، ثم بعد فترة يأتون على هيئة مدد، حتى يضعف من عزيمة العدو، ثم حمل المسلمين حملة عظيمة على الروم جعلتهم يتقهقرون وتضعف عزيمتهم، وأبدى - رضي الله عنه - من صنوف الشجاعة والبطولة ما تتقاصر عنه همم الأبطال، ثم إنه بحنكته وسياسته اتخذ طريقة محكمة في الانسحاب المنظم بالمسلمين، واكتفى بتلك الضربة، ورأى ألا يقحم المسلمين في معركة غير متكافئة، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فتحًا، فقال عندما نعى القادة الثلاثة: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم"[3].
وقد شهد خالد حروب الردة، وغزا العراق، وقد اختلف أهل السير في أسباب عزل خالد - رضي الله عنه - عن قيادة جيش المسلمين في الشام، ولعل الصحيح ما نقل عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال "لا، لأنزعن خالدًا حتى يعلم الناس أن الله إنما ينصر دينه بغير خالد"[4].
ومن أقواله العظيمة أنه قال: "ما من ليلة يهدى إلي بعروس أنا لها محب أحب إلى من ليلة شديدة البرودة، كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين، أصبح فيها العدو"[5].
وكتب رسالة إلى الفرس قال فيها: لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحب فارس شرب الخمر.
قال قيس بن أبي حارم: سمعت خالدًا وهو يقول: منعني الجهاد كثيرًا من تعلم القرآن الكريم[6].
قال أبوالزناد: لما احتضر خالد جعل يبكي، وقال: لقد شهدت كذا وكذا من المعارك زحفًا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"[7]؛ لقد تمنى خالد الشهادة ونرجو أن الله بلغه إياها.
روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف عن أبيه عن جده قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"[8].
وعند وفاته لم يترك إلا فرسه وسلاحه وغلامه، جعلها في سبيل الله، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال: رحم الله أبا سليمان كان على ما ظننا به[9].
وجاء في حديث عمر بن الخطاب في الزكاة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله"[10].
وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين من الهجرة في مدينة حمص الشامية وعمره آنذاك ثمانية وخمسون عامًا[11].
رضي الله عن خالد وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح البخاري برقم (4265).
[2] مسند الإمام أحمد برقم (1/ 216) برقم (43) وقال محققوه: حديث صحيح بشواهده.
[3] صحيح البخاري برقم (3757).
[4] سير أعلام النبلاء (1/378).
[5] سير أعلام النبلاء (1/375).
[6] ذكره الحافظ في المطالب العالية (4041).
[7] سير أعلام النبلاء (1/382).
[8] صحيح مسلم برقم (1909).
[9] سير أعلام النبلاء (1/383).
[10] صحيح البخاري برقم (1468).
[11] سير أعلام النبلاء (1/383).